فصل: سورة القلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (9- 16):

{قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)}
{قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا} يعني للرسول {ما نزل الله من شيء} وهذا اعتراف منهم بأنه أزاح عللهم ببعثة الرسل ولكنهم كذبوا وقالوا ما نزل الله من شيء {إن أنتم إلا في ضلال كبير} فيه وجهان أحدهما وهو الأظهر أنه من جملة قول الكفار للرسل والثاني يحتمل أن يكون من كلام الخزنة للكفار والمعنى لقد كنتم في الدنيا في ضلال كبير {وقالوا لو كنا نسمع} أي من الرسل ما جاؤوا به {أو نعقل} أي نفهم منهم، قال ابن عباس لو كنا نسمع الهدى أو نعقله فنعمل به {ما كنا في أصحاب السعير} وقيل معناه لو كنا نسمع سمع من يعي ونعقل عقل من يميز وننظر ونتفكر ما كنا في أصحاب السعير {فاعترفوا بذنبهم} هو في معنى الجمع أي بتكذيبهم الرسل وقولهم «ما نزل الله من شيء» {فسحقاً} أي بعداً {لأصحاب السعير} قوله عز وجل: {إن الذين يخشون ربهم بالغيب} أي يخافون ربهم ولم يروه فيؤمنوا به خوفاً من عذابه {لهم مغفرة} أي لذنوبهم {وأجر كبير} يعني جزاء أعمالهم الصالحة {وأسروا قولكم أو اجهروا به} قال ابن عباس نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل بما قالوا فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم كي لا يسمع إله محمد فأخبره الله أنه لا يخفى عليه خافية فقال تعالى: {إنه عليم بذات الصدور} ثم أكد ذلك بقوله تعالى: {ألا يعلم من خلق} يعني ألا يعلم من خلق مخلوقه، وقيل ألا يعلم الله من خلق والمعنى ألا يعلم الله ما في صدور من خلق {وهو اللطيف} أي باستخراج ما في الصدور {الخبير} بما فيها من السر والوسوسة.
قوله تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً} الذلول المنقاد من كل شيء والمعنى جعلها لكم سهلة لا يمتنع المشي فيها لحزونتها وغلظها {فامشوا في مناكبها} أمر إباحة وكذا قوله: {وكلوا من رزقه} ومناكبها جوانبها وأطرافها ونواحيها وقيل طرقها وفجاجها وقال ابن عباس جبالها والمعنى هو الذي سهل لكم السلوك في جبالها وهو أبلغ التذلل وكلوا من رزقه أي مما خلقه الله لكم في الأرض {وإليه النشور} أي وإليه تبعثون من قبوركم ثم خوف كفار مكة فقال تعالى: {أأمنتم من في السماء} قال ابن عباس يعني عقاب من في السماء إن عصيتموه {أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور} أي تتحرك بأهلها وقيل تهوي بهم والمعنى أن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى يقلبهم إلى أسفل وتعلو الأرض عليهم وتمور فوقهم أي تجيء وتذهب.

.تفسير الآيات (17- 27):

{أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)}
{أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً} يعني ريحاً ذات حجارة كما فعل بقوم لوط {فستعلمون} أي عند الموت في الآخرة {كيف نذير} أي إنذاري إذا عاينتم العذاب {ولقد كذب الذين من قبلهم} أي من قبل كفار مكة وهم الأمم الخالية {فكيف كان نكير} أي إنكاري عليهم أليس وجدوا العذاب حقاً.
قوله عز وجل: {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات} أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها {ويقبضن} أي يضممن أجنحتهن إذا ضربن بهن جنوبهن بعد البسط {ما يمسكهن} أي حال القبض والبسط {إلا الرحمن} والمعنى: أن الطير مع ثقلها وضخامة جسمها لم يكن بقاؤها وثبوتها في الجو إلا بإمساك الله عز وجل إياها وحفظه لها {إنه بكل شيء بصير} يعني أنه تعالى لا تخفى عليه خافية {أمن هذا الذي هو جند لكم} استفهام إنكار أي لا جند لكم {ينصركم} أي يمنعكم {من دون الرحمن} أي من عذاب الله قال ابن عباس أي من ينصركم مني إن أردت عذابكم {إن الكافرون إلا في غرور} أي من الشيطان يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم {أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه} يعني من ذا الذي يرزقكم المطر إن أمسكه الله عنكم {بل لجوا} أي تمادوا {في عتو} أي نبو وتكبر {ونفور} أي تباعد عن الحق ثم ضرب مثلاً للكافر والمؤمن فقال تعالى: {أفمن يمشي مكباً على وجهه} أي كاباً رأسه في الضلالة والجهالة أعمى القلب والعين لا يبصر يميناً ولا شمالاً وهو الكافر أكب على الكفر والمعاصي في الدنيا فحشره الله على وجهه يوم القيامة {أهدى} أي هو أهدى، {أمن يمشي سوياً} أي قائماً معتدلاً لا يبصر الطريق {على صراط مستقيم} يعني المؤمن يمشي يوم القيامة سوياً {قل هو الذي أنشأكم} أي خلقكم {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} يعني أنه تعالى ركب فيكم هذه القوى لكنكم ضيعتموها فلم تقبلوا ما سمعتموه ولا اعتبرتم بما أبصرتموه ولا تأملتم ما عقلتموه فكأنكم ضيعتم هذه النعم فاستعملتموها في غير ما خلقت له فلهذا قال {قليلاً ما تشكرون} وذلك لأن شكر نعم الله صرفها في وجه مرضاته فلما صرفتموها في غير مرضاته فكأنكم ما شكرتم رب هذه النعم الواهب لها {قل هو الذي ذرأكم} أي خلقكم وبثكم {في الأرض وإليه تحشرون} أي يوم القيامة والمعنى أن القادر على الإبداء قادر على الإعادة {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} هذا سؤال يحتمل وجهين: أحدهما أنه سؤال عن نزول العذاب بهم والثاني أنه سؤال عن يوم القيامة فأجاب الله عن ذلك بقوله: {قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين} أمره بإضافة العلم إلى الله تعالى وتبليغ ما أوحي إليه {فلما رأوه} يعني العذاب في الآخرة على قول أكثر المفسرين، وقيل يعني العذاب ببدر {زلفة} أي قريباً {سيئت وجوه الذين كفروا} أي اسودت وعلتها الكآبة والمعنى قبحت وجوههم بالسواد {وقيل} لهم أي وقالت لهم الخزنة {هذا الذي كنتم به تدعون} من الدعاء أي تتمنون وتطلبون أن يعجله لكم وقيل من الدعوى أي تدعون أنه باطل.

.تفسير الآيات (28- 30):

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)}
{قل} يا محمد لمشركي مكة الذين يتمنون هلاكك {أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي} أي من المؤمنين {أو رحمنا} أي فأبقانا وأخر في آجالنا {فمن يجير الكافرين من عذاب أليم} أي إنه واقع بهم لا محالة وقيل في معنى الآية قل أرأيتم إن أهلكني الله أي فعذبني ومن معي أو رحمنا أي فغفر لنا فنحن مع إيماننا خائفون أن يهلكنا بذنوبنا لأن حكمه نافذ فينا فمن يجيركم أو يمنعكم من عذاب أليم وأنتم كافرون وهذا قول ابن عباس، {قل} أي قل لهم في إنكارك عليهم وتوبيخك لهم {هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا} أي نحن آمنا به وعبد ناه وأنتم كفرتم به {فستعلمون} أي عند معاينة العذاب {من هو في ضلال مبين} أي نحن أم أنتم وهذا تهديد لهم ثم ذكرهم ببعض نعمه عليهم على طريق الاحتجاج فقال تعالى: {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم} قيل يريد ماء زمزم وقيل غيرها من المياه {غوراً} أي غائراً ذاهباً في الأرض لا تناله الأيدي ولا الدلاء {فمن يأتيكم بماء معين} أي ظاهر تراه العيون وتناله الأيدي والدلاء، وقال ابن عباس معين أي جار والمقصود من الآية أن يجعلهم مقرين ببعض نعمه عليهم ويريهم قبح ما هم عليه من الكفر والمعنى أخبروني إن صار ماؤكم ذاهباً في الأرض فمن يأتيكم بماء معين فلابد أن يقولوا هو الله تعالى فيقال لهم حينئذ فلم تجعلون معه من لا يقدر على شيء أصلاً شريكاً له في العبودية فهذا محال، والله أعلم.

.سورة القلم:

.تفسير الآية رقم (1):

{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)}
قوله عز وجل: {ن} قال ابن عباس هو الحوت الذي على ظهره الأرض وعنه «إن أول ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون فمادت الأرض فأثبتت الجبال فإن الجبال لتفخر على الأرض ثم قرأ ن والقلم وما يسطرون» قيل اسم النون بهموت وقيل لوثيا وعن علي بلهوث.
قال أصحاب السير والأخبار: لما خلق الله الأرض وفتقها سبع أرضين بعث من تحت العرش ملكاً فهبط إلى الأرض حتى دخلت تحت الأرضين السبع وضبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار فأهبط الله تعالى من الفردوس ثوراً له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم تستقر قدمه فأخذ الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة الفردوس غلظها مسيرة خمسمائة سنة فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقر عليها قدما الملك وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفساً فإذا تنفس مد البحر وإذا رد نفسه جزر البحر فلم يكن لقوائم الثور قرار فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سموات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه فتكن في صخرة فلم يكن للصخرة مستقر فخلق الله تعالى نوناً وهو الحوت العظيم فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال والحوت على البحر والبحر على متن الريح والريح على القدرة قيل فكل الدنيا بما عليها حر فان قال لها الجبار سبحانه وتعالى وتنزه وتقدس كوني فكانت.
قال كعب الأحبار: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهر الأرض فوسوس إليه فقال له أتدري ما على ظهرك يا ليوثا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو نفضتهم لألقيتهم على ظهرك فهم ليوثا أن يفعل ذلك فبعث له دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله تعالى منها فأذن لها فخرجت قال كعب الأحبار فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت كما كانت وعن ابن عباس أيضاً أن النون هو الدواة ومنه قول الشاعر:
إذا ما الشوق برح بي إليهم ** ألقت النون بالدمع السجام

أراد بالنون الدواة وعن ابن عباس أيضاً أن نوناً حرف من حروف الرحمن إذا جمعت الرحمن وقيل هو مفتاح اسمه ناصر ونصير وقيل اسم للسورة {والقلم} هو القلم الذي كتب الله به الذكر وهو قلم من نور طوله ما بين السماء والأرض ويقال أول ما خلق الله القلم فنظر إليه فانشق نصفين ثم قال اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ بذلك وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه {وما يسطرون} أي وما يكتب الحفظة من أعمال بني آدم وقيل إن حملنا القلم على ذلك القلم المعين فيحتمل أن يكون المراد وما يسطرون فيه وهو اللوح المحفوظ ويكون الجمع في وما يسطرون للتعظيم لا للجمع.

.تفسير الآيات (2- 4):

{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}
{ما أنت} يا محمد {بنعمة ربك بمجنون} هذا جواب القسم أقسم الله بنون والقلم وما يسطرون وما أنت بنعمة ربك بمجنون وهو رد لقولهم {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} والمعنى إنك لا تكون مجنوناً وقد أنعم الله عليك بالنبوة والحكمة فنفى عنه الجنون وقيل معناه ما أنت بمجنون والنعمة لله وهو كما يقال ما أنت بمجنون والحمد لله وقيل إن نعمة الله كانت ظاهرة عليه من الفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية والأخلاق الحميدة والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة فوجودها ينفي حصول الجنون فنبه الله تعالى بهذه الآية على كونهم كاذبين في قولهم إنك لمجنون {وإن لك لأجراً غير ممنون} أي غير منقوص ولا مقطوع ومنه قول لبيد:
عبس كواسب ما يمن طعامها

أي ما يقطع يصف بذلك كلاباً ضارية، وقيل في معنى الآية إنه غير مكدر عليك بسبب المنة والقول هو الأول ومعناه إن لك على احتمالك الطعن وصبرك على هذا القول القبيح وافترائهم عليك أجراً عظيماً دائماً لا ينقطع، وقيل إن لك على إظهار النبوة وتبليغ الرسالة ودعاء الخلق إلى الله تعالى والصبر على ذلك وبيان الشرائع لهم أجراً عظيماً فلا تمنعك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا الأمر العظيم الذي قد حملته ثم وصفه بما يخالف حال المجنون فقال تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} وهذا كالتفسير لقوله: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة عليه ومن كان كذلك لم تجز إضافة الجنون إليه ولما كانت أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملة حميدة وأفعاله المرضية الجميلة وافرة وصفها الله تعالى بأنها عظيمة وحقيقة الخلق قوى نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الحميدة والآداب المرضية فيصير ذلك كالخلقة في صاحبه ويدخل في حسن الخلق التحرز من الشح والبخل والتشديد في المعاملات ويستعمل في حسن الخلق التحبب إلى الناس بالقول والفعل والبذل وحسن الأدب والمعاشرة بالمعروف مع الأقارب والأجانب والتساهل في جميع الأمور والتسامح بما يلزم من الحقوق وترك التقاطع والتهاجر واحتمال الأذى من الأعلى والأدنى مع طلاقة الوجه وإدامة البشر فهذه الخصال تجمع جميع محاسن الأخلاق ومكارم الأفعال ولقد كان جميع ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا وصفه الله تعالى بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم}، وقال ابن عباس معناه على دين عظيم لا دين أحب إليّ ولا أرضى عندي منه وهو دين الإسلام وقال الحسن هو آداب القرآن سئلت عائشة رضي الله عها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت كان خلقه القرآن وقال قتادة هو ما كان يأتمر من أوامر الله وينتهي عنه من مناهي الله تعالى والمعنى وإنك لعلى الخلق الذي أمرك الله به في القرآن وقيل سمى الله خلقه عظيماً لأنه امتثل تأديب الله إياه بقوله: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل في فضل حسن الخلق وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من ذلك ما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال».
(م) عن النواس بن سمعان قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس»، عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» أخرجه أبو داود وعنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من أكمل الناس إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن.
عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وله عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً»،.
(ق) عن البراء رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً ليس بالطويل ولا بالقصير».
(ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً» وكان يقول: «خياركم أحاسنكم أخلاقاً».
(ق) عن أنس رضي الله عنه قال: «خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي أف قط ولا قال لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا» زاد الترمذي «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً وما مسست خزاً قط ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت مسكاً قط ولا عطراً كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم»،.
(خ) عنه قال: «إن كانت الأمة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت» زاد في رواية: «و يجيب إذا دعي» وعنه قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده ولا يصرف وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس له» أخرجه الترمذي،.
(ق) عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت «ما خير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة اللّه فينتقم»، زاد مسلم عنها: «و ما ضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل اللّه تعالى».
(ق) عن أنس قال: «كنت أمشي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ثم قال يا محمد مر لي من مال اللّه الذي عندك فالتفت إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وضحك وأمر له بعطاء»،.
(ق) عنه رضي اللّه عنه قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أحسن الناس خلقا وكان لي أخ يقال له أبو عمير وكان فطيما كان إذا جاءنا قال يا أبا عمير ما فعل النغير لنغير كان يلعب به» النغير طائر صغير يشبه العصفور إلا أنه أحمر المنقار.
(م) عن الأسود قال: «سألت عائشة ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يفعل في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة» المهنة الخدمة عن عبد اللّه بن الحارث بن جزء قال: «ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم» أخرجه الترمذي قوله تعالى: